فصل: (بَلَى):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.(بَلَى):

لَهَا مَوْضِعَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ رَدًّا لِنَفْيٍ يَقَعُ قَبْلَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ} أَيْ عَمِلْتُمُ السُّوءَ.
وَقَوْلِهِ: {لَا يَبْعَثُ اللَّهُ من يموت بلى}.
وَقَوْلِهِ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سبيل} ثم قال: {بلى} أَيْ عَلَيْهِمْ سَبِيلٌ.
وَالثَّانِي: أَنْ تَقَعَ جَوَابًا لِاسْتِفْهَامِ دَخَلَ عَلَيْهِ نَفْيُ حَقِيقَةٍ فَيَصِيرُ مَعْنَاهَا التَّصْدِيقَ لِمَا قَبْلَهَا كَقَوْلِكَ أَلَمْ أَكُنْ صَدِيقَكَ أَلَمْ أُحْسِنْ إِلَيْكَ فَتَقُولُ بَلَى أَيْ كُنْتَ صَدِيقِي.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالوا بلى قد جاءنا نذير}.
ومنه: {ألست بربكم قالوا بلى}، أَيْ أَنْتَ رَبُّنَا فَهِيَ فِي هَذَا الْأَصْلِ تَصْدِيقٌ لِمَا قَبْلَهَا وَفِي الْأَوَّلِ رَدٌّ لِمَا قَبْلَهَا وَتَكْذِيبٌ.
وَقَوْلُهُ: {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالوا بلى} أَيْ كُنْتُمْ مَعَنَا وَيَجُوزُ أَنْ يُقْرَنَ النَّفْيُ بِالِاسْتِفْهَامِ مُطْلَقًا أَعَمُّ مِنَ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ فَالْحَقِيقِيُّ كَقَوْلِهِ: {أَمْ يَحْسَبُونَ أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى}: {أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه بلى}.
ثُمَّ قَالَ الْجُمْهُورُ: التَّقْدِيرُ بَلْ نُحْيِيهَا قَادِرِينَ لِأَنَّ الْحِسَابَ إِنَّمَا يَقَعُ مِنَ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْيِ جَمْعِ الْعِظَامِ وَبَلَى إِثْبَاتُ فِعْلِ النَّفْيِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ بَعْدَهَا مَذْكُورًا عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَابِ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: التَّقْدِيرُ فَلْنُحْيِهَا قَادِرِينَ لدلالة أيحسب عليه وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ عُدُولٌ عَنْ مَجِيءِ الْجَوَابِ عَلَى نَمَطِ السُّؤَالِ.
وَالْمَجَازِيُّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَسْتُ بربكم قالوا بلى} فَإِنَّ الِاسْتِفْهَامَ هُنَا لَيْسَ عَلَى حَقِيقَتِهِ بَلْ هُوَ لِلتَّقْرِيرِ لَكِنَّهُمْ أَجْرَوُا النَّفْيَ مَعَ التَّقْرِيرِ مجرى النفي المجرد في رده بـ: (بلى).
وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ قَالُوا نَعَمْ لَكَفَرُوا وَوَجْهُهُ أَنَّ نَعَمْ تَصْدِيقٌ لِمَا بَعْدَ الْهَمْزَةِ نَفْيًا كَانَ أَوْ إِثْبَاتًا.
وَنَازَعَ السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ فِي الْمَحْكِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وَجْهِ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ التَّقْرِيرِيَّ إِثْبَاتٌ قَطْعًا وَحِينَئِذٍ فَنَعَمْ فِي الْإِيجَابِ تَصْدِيقٌ لَهُ فَهَلَّا أُجِيبَ بِمَا أُجِيبَ بِهِ الْإِيجَابُ فَإِنَّ قَوْلَكَ أَلَمْ أُعْطِكَ دِرْهَمًا بِمَنْزِلَةِ أَعْطَيْتُكَ.
وَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: ذَكَرَهُ الصَّفَّارُ أَنَّ الْمُقَرِّرَ قَدْ يُوَافِقُهُ الْمُقَرَّرُ فِيمَا يَدَّعِيهِ وَقَدْ لَا فَلَوْ قِيلَ فِي جَوَابِ: أَلَمْ أُعْطِكَ نَعَمْ لَمْ يُدْرَ هَلْ أَرَادَ نَعَمْ لَمْ تُعْطِنِي فَيَكُونُ مُخَالِفًا لِلْمُقَرِّرِ أَوْ نَعَمْ أَعْطَيْتَنِي فَيَكُونُ مُوَافِقًا فَلَمَّا كان يلتبس أجابوه على اللفظ ولم يلتفتوا إلى المعنى.

.تَنْبِيهَاتٌ:

الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِ بَلَى إِنَّمَا يُجَابُ بِهَا النَّفْيُ هُوَ الْأَصْلُ وَأَمَّا قوله تعالى: {بلى قد جاءتك آياتي} فَإِنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْهَا نَفْيٌ لَفْظًا لَكِنَّهُ مُقَدَّرٌ فإن معنى {لو أن الله هداني} ما هداني فلذلك أجيب بـ: (بلى) الَّتِي هِيَ جَوَابُ النَّفْيِ الْمَعْنَوِيِّ وَلِذَلِكَ حَقَّقَهُ بقوله: {قد جاءتك آياتي} وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْهِدَايَاتِ.
وَمِثْلُهُ: {بَلَى قَادِرِينَ} فَإِنَّهُ سَبَقَ نَفْيٌ وَهُوَ {أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} فَجَاءَتِ الْآيَةُ عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ لَهُمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَجْمَعُ عِظَامَهُمْ فَرَدَّ عليهم بقوله: {بلى قادرين} وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ حَقُّ بَلَى أَنْ تَجِيءَ بَعْدَ نَفْيٍ عَلَيْهِ تَقْرِيرٌ وَهَذَا الْقَيْدُ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي النَّفْيِ لَمْ يَذْكُرْهُ غَيْرُهُ وَأَطْلَقَ النَّحْوِيُّونَ أَنَّهَا جَوَابُ النَّفْيِ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَثِيرُ الدِّينِ: حَقُّهَا أَنْ تَدْخُلَ عَلَى النَّفْيِ ثُمَّ حَمْلُ التَّقْرِيرِ عَلَى النَّفْيِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَحْمِلْهُ عَلَيْهِ بَعْضُ الْعَرَبِ وَأَجَابَهُ بِنَعَمْ.
وَسَأَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَلَّا قُرِنَ الْجَوَابُ بِمَا هُوَ جَوَابٌ لَهُ وهو قوله: {أن الله هداني} ولم يفصل بينهما بآية؟
وَأَجَابَ بِأَنَّهُ إِنْ تَقَدَّمَ عَلَى إِحْدَى الْقَرَائِنِ الثَّلَاثِ فُرِقَ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ النَّظْمِ فَلَمْ يَحْسُنْ وَإِنْ تَأَخَّرَتِ الْقَرِينَةُ الْوُسْطَى نُقِضَ التَّرْتِيبُ وَهُوَ التَّحَسُّرُ عَلَى التَّفْرِيطِ فِي الطَّاعَةِ ثُمَّ التَّعْلِيلُ بِفَقْدِ الْهِدَايَةِ ثُمَّ تَمَنِّي الرَّجْعَةِ فَكَانَ الصَّوَابُ مَا جَاءَ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّهُ حَكَى أَقْوَالَ النَّفْسِ عَلَى تَرْتِيبِهَا وَنَظْمِهَا ثُمَّ أَجَابَ عَمَّا اقْتَضَى الْجَوَابُ مِنْ بَيْنِهَا.
الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّكَ مَتَى رَأَيْتَ بَلَى أَوْ نعم بعد الكلام يَتَعَلَّقُ بِهَا تَعَلُّقَ الْجَوَابِ وَلَيْسَ قَبْلَهَا مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لَهُ فَاعْلَمْ أَنَّ هُنَاكَ سُؤَالًا مُقَدَّرًا لَفْظُهُ لَفْظُ الْجَوَابِ وَلَكِنَّهُ اخْتُصِرَ وَطُوِيَ ذِكْرُهُ عِلْمًا بِالْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فله أجره عند ربه}، فَقَالَ: الْمُجِيبُ بَلَى وَيُعَادُ السُّؤَالُ فِي الْجَوَابِ.
وَكَذَا قَوْلُهُ: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ به خطيئته}، لَيْسَتْ بَلَى فِيهِ جَوَابًا لِشَيْءٍ قَبْلَهَا بَلْ مَا قَبْلَهَا دَالٌّ عَلَى مَا هِيَ جَوَابٌ لَهُ وَالتَّقْدِيرُ لَيْسَ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ خَالِدًا فِي النَّارِ أَوْ يُخَلَّدُ فِي النَّارِ فَجَوَابُهُ الْحَقُّ بَلَى.
وَقَدْ يُكْتَفَى بِذِكْرِ بَعْضِ الْجَوَابِ دَالًّا عَلَى بَاقِيهِ كَمَا قال تعالى: {بلى قادرين} أَيْ بَلَى نَجْمَعُهَا قَادِرِينَ فَذِكْرُ الْجُمْلَةِ بِمَثَابَةِ ذكر الجزاء من الجملة وكاف عنها.
الثالث: مِنَ الْقَوَاعِدِ النَّافِعَةِ أَنَّ الْجَوَابَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِمَلْفُوظٍ بِهِ أَوْ مُقَدَّرٍ فَإِنْ كَانَ المقدر فَالْجَوَابُ بِالْكَلَامِ، كَقَوْلِكَ لِمَنْ تُقَدِّرُهُ مُسْتَفْهِمًا عَنْ قِيَامِ زَيْدٍ قَامَ زَيْدٌ أَوْ لَمْ يَقُمْ زَيْدٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ نَعَمْ وَلَا لَا لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ مَا يَعْنِي بِذَلِكَ وإن كان الجواب الملفوظ بِهِ فَإِنْ أَرَدْتَ التَّصْدِيقَ قُلْتَ نَعَمْ وَفِي تَكْذِيبِهِ بَلَى فَتَقُولُ فِي جَوَابِ مَنْ قَالَ أَمَا قَامَ زَيْدٌ نَعَمْ إِذَا صَدَّقْتَهُ وَبَلَى إِذَا كَذَّبْتَهُ.
وَكَذَلِكَ إِذَا أَدْخَلْتَ أَدَاةَ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى النَّفْيِ وَلَمْ تُرِدِ التَّقْرِيرَ بَلْ أَبْقَيْتَ الكلام عَلَى نَفْيِهِ فَتَقُولُ فِي تَصْدِيقِ النَّفْيِ نَعَمْ وَفِي تَكْذِيبِهِ بَلَى نَحْوُ أَلَمْ يَقُمْ زَيْدٌ فَتَقُولُ فِي تَصْدِيقِ النَّفْيِ نَعَمْ وَفِي تَكْذِيبِهِ بلى.
الرابع: يَجُوزُ الْإِثْبَاتُ وَالْحَذْفُ بَعْدَ بَلَى فَالْإِثْبَاتُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جاءنا نذير}.
وَقَوْلِهِ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قل بلى وربي لتأتينكم}.
وَمِنَ الْحَذْفِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الملائكة منزلين بلى إن تصبروا}، فَالْفِعْلُ الْمَحْذُوفُ بَعْدَ بَلَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَكْفِيكُمْ أَيْ بَلَى يَكْفِيكُمْ إِنْ تَصْبِرُوا.
وَقَوْلِهِ: {أولم تؤمن قال بلى}، أَيْ قَدْ آمَنْتُ.
وَقَوْلِهِ: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النار إلا أياما معدودة} ثُمَّ قَالَ بَلَى أَيْ تَمْسَسْكُمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَوْلِهِ: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا من كان هودا أو نصارى} ثُمَّ قَالَ بَلَى أَيْ يَدْخُلُهَا غَيْرُهُمْ.
وَقَوْلِهِ: {ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى}.
وقد تحذف بلى وما بعدها كقوله: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ معي صبرا} أَيْ بَلَى قُلْتَ لِي.

.(ثُمَّ):

لِلتَّرْتِيبِ مَعَ التَّرَاخِي وَأَمَّا قَوْلُهُ: {لِمَنْ تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى} وَالْهِدَايَةُ سَابِقَةٌ عَلَى ذَلِكَ فَالْمُرَادُ ثُمَّ دَامَ عَلَى الْهِدَايَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا}.
وَقَدْ تَأْتِي لِتَرْتِيبِ الْأَخْبَارِ لَا لِتَرْتِيبِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شهيد}.
وقوله: {واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه}.
وَتَقُولُ: زَيْدٌ عَالِمٌ كَرِيمٌ ثُمَّ هُوَ شُجَاعٌ.
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: قَدْ تَجِيءُ ثُمَّ كَثِيرًا لِتَفَاوُتِ مَا بَيْنَ رُتْبَتَيْنِ فِي قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ فِيهِ تَفَاوُتُ مَا بَيْنَ مَرْتَبَتَيِ الْفِعْلِ مَعَ السُّكُوتِ عَنْ تَفَاوُتِ رُتْبَتَيِ الْفَاعِلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} فـ: (ثم) هُنَا لِتَفَاوُتِ رُتْبَةِ الْخَلْقِ وَالْجَعْلِ مِنْ رُتْبَةِ الْعَدْلِ مَعَ السُّكُوتِ عَنْ وَصْفِ الْعَادِلِينَ.
وَمِثْلُهُ قوله تعالى: {فلا اقتحم العقبة} إِلَى قَوْلِهِ: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا}، دَخَلَتْ لِبَيَانِ تَفَاوُتِ رُتْبَةِ الْفَكِّ وَالْإِطْعَامِ مِنْ رُتْبَةِ الْإِيمَانِ إِلَّا أَنَّ فِيهَا زِيَادَةَ تَعَرُّضٍ لِوَصْفِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}.
وَذَكَرَ غَيْرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ الَّذِينَ كفروا بربهم يعدلون} أن ثم دخلت لبعد ما بين الكفر وخلق السموات وَالْأَرْضِ.
وَعَلَى ذَلِكَ جَرَى الزَّمَخْشَرِيُّ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْكَشَّافِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَغَفَّارٌ لِمَنْ تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى}.
وَقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ استقاموا} قَالَ كَلِمَةُ التَّرَاخِي دَلَّتْ عَلَى تَبَايُنِ الْمَنْزِلَتَيْنِ دَلَالَتَهَا عَلَى تَبَايُنِ الْوَقْتَيْنِ فِي جَاءَنِي زَيْدٌ ثُمَّ عَمْرٌو أَعْنِي أَنَّ مَنْزِلَةَ الِاسْتِقَامَةِ عَلَى الخبر مُبَايِنَةٌ لِمَنْزِلَةِ الْخَيْرِ نَفْسِهِ لِأَنَّهَا أَعْلَى مِنْهَا وَأَفْضَلُ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ قتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر}.
إِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى ثُمَّ الدَّاخِلَةِ فِي تَكْرِيرِ الدُّعَاءِ؟ قُلْتُ: الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْكَرَّةَ الثَّانِيَةَ مِنَ الدُّعَاءِ أَبْلَغُ مِنَ الْأُولَى.
وَقَوْلُهُ: {ثم كان من الذين آمنوا} قال جاء بـ: (ثم) لِتَرَاخِي الْإِيمَانِ وَتَبَاعُدِهِ فِي الرُّتْبَةِ وَالْفَضِيلَةِ عَلَى الْعِتْقِ وَالصَّدَقَةِ لَا فِي الْوَقْتِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ السَّابِقُ الْمُقَدَّمُ عَلَى غَيْرِهِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ ملة إبراهيم حنيفا} أن ثم هذه فِيهَا مِنْ تَعْظِيمِ مَنْزِلَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْلَالِ مَحَلِّهِ وَالْإِيذَانِ بِأَنَّهُ أَوْلَى وَأَشْرَفُ مَا أُوتِيَ خَلِيلُ اللَّهِ إِبْرَاهِيمُ مِنَ الْكَرَامَةِ وَأَجَلُّ مَا أُوتِيَ مِنَ النِّعْمَةِ أَتْبَاعُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِلَّتِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ بِهَذَا التَّقْدِيرِ يَنْدَفِعُ الِاعْتِرَاضُ بِأَنَّ ثُمَّ قَدْ تَخْرُجُ عَنِ التَّرْتِيبِ وَالْمُهْلَةِ وَتَصِيرُ كَالْوَاوِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتِمُّ عَلَى أَنَّهَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ الزَّمَانِيَّ لُزُومًا أَمَّا إِذَا قُلْنَا إنها ترد لِقَصْدِ التَّفَاوُتِ وَالتَّرَاخِي عَنِ الزَّمَانِ لَمْ يُحْتَجْ إِلَى الِانْفِصَالِ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الشَّرِيفَةِ لَا أَنْ تَقُولَ إِنَّ ثُمَّ قَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى الْوَاوِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهَا لِلتَّرَاخِي فِي الزَّمَانِ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمُهْلَةِ وَتَكُونُ لِلتَّبَايُنِ فِي الصِّفَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ غَيْرِ قَصْدِ مُهْلَةٍ زَمَانِيَّةٍ بَلْ لِيُعْلَمَ مَوْقِعُ مَا يُعْطَفُ بِهَا وَحَالُهُ وَأَنَّهُ لَوِ انْفَرَدَ لَكَانَ كَافِيًا فِيمَا قُصِدَ فِيهِ وَلَمْ يُقْصَدْ فِي هَذَا تَرْتِيبٌ زَمَانِيٌّ بَلْ تَعْظِيمُ الْحَالِ فِيمَا عُطِفَ عَلَيْهِ وَتَوَقُّعُهُ وَتَحْرِيكُ النُّفُوسِ لِاعْتِبَارِهِ.
وَقِيلَ: تأتي للتعجب بنحو: {ثم الذين كفروا بربهم يعدلون}.
وقوله: {ثم يطمع أن أزيد كلا}.
وَقِيلَ: بِمَعْنَى وَاوِ الْعَطْفِ كَقَوْلِهِ: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثم الله شهيد} أَيْ هُوَ شَهِيدٌ.
وَقَوْلِهِ: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بيانه}.
وَالصَّوَابُ أَنَّهَا عَلَى بَابِهَا لِمَا سَبَقَ قَبْلَهُ.
وَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا}.
وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ قَبْلَ خَلْقِنَا فَالْمَعْنَى وَصَوَّرْنَاكُمْ.
وَقِيلَ: عَلَى بَابِهَا وَالْمَعْنَى ابْتَدَأْنَا خَلْقَكُمْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ صَوَّرَهُ وَابْتَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ صَوَّرَهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {خَلَقَكُمْ مِنْ طين ثم قضى أجلا} وَقَدْ كَانَ قَضَى الْأَجَلَ فَمَعْنَاهُ أُخْبِرُكُمْ أَنِّي خَلَقْتُهُ مِنْ طِينٍ ثُمَّ أُخْبِرُكُمْ أَنِّي قَضَيْتُ الأجل كما تقول كلمتك اليوم ثم كلمتك أمس أي أني أخبرك بذالك ثم أخبرك بهذا وَهَذَا يَكُونُ فِي الْجُمَلِ.
فَأَمَّا عَطْفُ الْمُفْرَدَاتِ فَلَا تَكُونُ إِلَّا لِلتَّرْتِيبِ قَالَهُ ابْنُ فَارِسٍ.
قِيلَ: وَتَأْتِي زَائِدَةً كَقَوْلِهِ تعالى: {وعلى الثلاثة الذين خلفوا} إلى قوله: {ثم تاب عليهم} لِأَنَّ تَابَ جَوَابُ إِذَا مِنْ قَوْلِهِ: {حَتَّى إذا ضاقت}.
وَتَأْتِي لِلِاسْتِئْنَافِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدبار ثم لا ينصرون}.
فَإِنْ قِيلَ: مَا الْمَانِعُ مِنَ الْجَزْمِ عَلَى الْعَطْفِ؟
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ عُدِلَ بِهِ عَنْ حُكْمِ الْجَزَاءِ إِلَى حُكْمِ الْإِخْبَارِ ابْتِدَاءً كَأَنَّهُ قَالَ ثُمَّ أُخْبِرُكُمْ أَنَّهُمْ لَا يُنْصَرُونَ.
فَإِنْ قِيلَ: أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ رَفْعِهِ وَجَزْمِهِ فِي الْمَعْنَى؟
قِيلَ: لَوْ جُزِمَ لَكَانَ نَفْيُ النَّصْرِ مُقَيَّدًا بِمُقَاتَلَتِهِمْ كَتَوَلِّيهِمْ وَحِينَ رُفِعَ كَانَ النَّصْرُ وَعْدًا مُطْلَقًا كَأَنَّهُ قَالَ ثُمَّ شَأْنُهُمْ وَقِصَّتُهُمْ أَنِّي أُخْبِرُكُمْ عَنْهَا وَأُبَشِّرُكُمْ بِهَا بَعْدَ التَّوْلِيَةِ أَنَّهُمْ مَخْذُولُونَ مَنَعْتُ عَنْهُمُ النُّصْرَةَ وَالْقُوَّةَ ثُمَّ لَا يَنْهَضُونَ بَعْدَهَا بِنَجَاحٍ وَلَا يَسْتَقِيمُ لَهُمْ أَمْرٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ حَرْفَ اسْتِئْنَافٍ فَفِيهَا مَعْنَى الْعَطْفِ وَهُوَ عَطْفُ الْخَبَرِ عَلَى جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ كَأَنَّهُ قَالَ أُخْبِرُكُمْ أَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَكُمْ فَيُهْزَمُونَ ثُمَّ أُخْبِرُكُمْ أَنَّهُمْ لَا يُنْصَرُونَ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى التَّرَاخِي فِي ثُمَّ؟
قِيلَ التَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ الَّتِي تَتَسَلَّطُ عَلَيْهِمْ أَعْظَمُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِتَوَلِّيهِمُ الْأَدْبَارَ وكقوله تَعَالَى: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ}.